جسد السودان في غرفة الإنعاش.. "الكوليرا" تحاصر مَن يفلت من نيران الحرب
جسد السودان في غرفة الإنعاش.. "الكوليرا" تحاصر مَن يفلت من نيران الحرب
في السودان، حيث الحرب لا تزال تعبث بجغرافيا الوطن وتاريخ أهله، تتفشى الأوبئة كما لو كانت انعكاسًا حتميًا لحال الدولة المتداعية، وتشهد البلاد تصاعدًا مقلقًا في حالات الإصابة بالكوليرا، وسط مجاعة خانقة ونزاعات طاحنة، حيث باتت الأوبئة وجهًا آخر للموت، لا يقل وحشية عن القذائف والرصاص.
وأحدث التقارير الصادرة عن وزارة الصحة السودانية، أول أمس السبت، تكشف عن وصول عدد الحالات المؤكدة من الإصابة بالكوليرا إلى 593 إصابة مثبتة معمليًا، في وقت بلغت فيه حصيلة الوفيات المرتبطة بالكوليرا وسوء التغذية 22 وفاة حتى الآن، بينها 9 حالات وفاة بالكوليرا فقط حتى يوم الخميس الماضي.
وهذه الأرقام لا تُعدّ ضخمة من منظور إحصائي بحت، لكنها مخيفة في ظل التدهور الشامل الذي تعيشه المنظومة الصحية، وانعدام الوسائل الوقائية، ما يجعل أي تصاعد إضافي في عدد الحالات نذير كارثة صحية قد تتجاوز في آثارها حدود ما هو متعارف عليه.
اللافت في التقرير أن جميع الحالات المؤكدة تم استقبالها في مستشفى "النو" بمدينة أم درمان، الذي بات يشكّل، رغم تواضع إمكانياته، خط الدفاع الأول –وربما الأخير– في وجه الوباء.
ومن جهة أخرى، رصدت شبكة أطباء السودان في بيانها الأخير تسارعًا في معدلات الإصابة، إذ ارتفع عدد الحالات خلال يومين فقط من 521 إلى 593 حالة، ما يعكس نمطًا وبائيًا متسارعًا يستدعي التدخل العاجل.
ولا يتيح المشهد العام للوضع الصحي في السودان مجالاً للتفاؤل، فبحسب وزارة الصحة السودانية، تم تسجيل 60,228 إصابة بالكوليرا في البلاد حتى نهاية الشهر الماضي، تسببت في 1,617 وفاة، موزعة على 88 محلية في 12 ولاية.
هذه الأرقام التي تبدو صادمة، لا تعكس فقط حجم انتشار المرض، بل تفضح أيضًا عمق الانهيار في القدرة الوطنية على الاستجابة، سواء من حيث توفر الطواقم الطبية، أو جهوزية المستشفيات، أو أدوات الرصد والوقاية.
يأتي هذا التصعيد في تفشي الكوليرا متزامنًا مع معضلات وبائية أخرى تُكمل مشهد الانهيار الصحي، حيث سُجلت 127 إصابة جديدة بحمى الضنك ليصل الإجمالي إلى 11,800 إصابة، بينها 20 حالة وفاة، كما سُجّلت 132 إصابة بالحصبة دون وفيات، في 38 محلية موزعة على 9 ولايات، فضلًا عن تسجيل 194 إصابة بالتهاب الكبد الوبائي، معظمها في غرب كسلا، ليبلغ إجمالي الحالات 819 إصابة، هذا التعدد في الأوبئة، وتزامن تفشيها في بلد تنهشه الحروب، يضع السودان أمام واحدة من أسوأ الأزمات الصحية في تاريخه.
وفي ظل استمرار النزاع المسلح في السودان منذ أبريل 2023، تواجه البلاد انهيارًا شبه كامل في نظامها الصحي، مع خروج أكثر من 70% من المستشفيات عن الخدمة بسبب القصف، ونقص الإمدادات، وهروب الكوادر الطبية.
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن أكثر من ثلثي المستشفيات الرئيسية في المناطق المتأثرة بالنزاع أصبحت غير صالحة للعمل، مع تعرض ما تبقى منها لخطر الإغلاق بسبب نقص الطواقم الطبية، والإمدادات، والمياه النظيفة، والكهرباء.
ومنذ اندلاع الحرب، تم توثيق أكثر من 100 هجوم على مرافق الرعاية الصحية، بما في ذلك المستشفيات والمخازن الطبية ووسائل النقل والإمداد، مما أدى إلى منع المرضى والعاملين الصحيين من الوصول إلى الرعاية اللازمة، وفي العاصمة الخرطوم، تم الإبلاغ عن تدمير أو إغلاق 41 من أصل 87 مستشفى، ما أدى إلى تقليص الخدمات الصحية بشكل كبير.
وفي هذا السياق، تتفاقم الأزمة الصحية مع تفشي الأمراض المعدية مثل الكوليرا، حيث سجلت وزارة الصحة السودانية حتى نهاية أبريل 2025 أكثر من 60,993 حالة إصابة بالكوليرا، مع 1,632 حالة وفاة، موزعة على 88 محلية في 12 ولاية، وفي أبريل وحده، تم الإبلاغ عن 1,801 حالة جديدة و49 حالة وفاة، مما يشير إلى زيادة بنسبة 37% في الحالات و345% في الوفيات مقارنة بشهر مارس.
وفي ظل هذه الظروف، أطلقت شبكة أطباء السودان نداءً عاجلاً للسلطات الصحية لتطهير الأماكن العامة، وإغلاق الأسواق العشوائية، ومنع بيع الأطعمة المكشوفة، ووقف نقل المياه بوسائل بدائية تفتقر للمعايير الصحية. ومع ذلك، لم تجد هذه المطالب صدىً على أرض الواقع، في ظل انشغال السلطات بالصراعات الداخلية وتدهور آليات الإدارة المدنية.
الكوليرا تهدد الاقتصاد والصحة
قال الدكتور وائل فهمي، عضو اللجنة الاقتصادية في قوى الحرية والتغيير بالسودان، إن الأوبئة تمثل تهديدًا شاملًا لا يقتصر على الصحة فقط، بل يمتد ليشل الاقتصاد الوطني والإقليمي والدولي، مؤكدًا أن انتشار الأوبئة يؤدي إلى شلل في حركة التجارة ويؤثر سلبًا على العلاقات الاقتصادية مع الشركاء التجاريين على مختلف المستويات.
وأوضح فهمي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن وباء الكوليرا تفشى في عدة ولايات رئيسية منها الخرطوم، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، القضارف وكسلا، مشيرًا إلى أن هذه المناطق تمثل أكثر من نصف النشاط الاقتصادي الوطني قبل اندلاع النزاع المسلح في أبريل 2023. وأكد أن هذه الحقيقة تعكس حجم الكارثة الاقتصادية والإنسانية التي تعصف بالبلاد.
وأشار إلى أن وزير الصحة في الخرطوم، هيثم محمد إبراهيم، أعلن تسجيل زيادة أسبوعية تقدر ما بين 600 و700 حالة إصابة جديدة خلال الأسابيع الأربعة الماضية، فيما وثقت منظمة "أطباء بلا حدود" تسجيل 500 حالة مشتبه بها في الخرطوم خلال يوم واحد، في ظل ضعف البنية الصحية وقدرتها المحدودة على التعامل مع تفشي المرض.
وتابع أن المناطق المتضررة، رغم تحريرها عسكريًا، لا تزال تعاني من تداعيات الحرب على المستويين البيئي والعمراني، وهو ما يصعب التعامل معه بسرعة نتيجة محدودية الموارد المالية والبشرية والتقنية، خاصة في ظل استمرار النزاع المسلح الذي يعمق هذه الأزمة.
وأضاف أن الاقتصاد السوداني، الذي انهارت بنيته الإنتاجية والخدمية والمصرفية بسبب الحرب، يواجه الآن تهديدًا إضافيًا بتوقف عجلة التعافي بسبب تفشي الكوليرا، الأمر الذي يثبط قدرة المواطنين على القيام بأي نشاط اقتصادي، في ظل ضعف الخدمات الأساسية، وتعقيد وصول المساعدات الإنسانية.
وشدد فهمي على ضرورة أن تبادر الحكومة الحالية إلى تخصيص مزيد من الموارد المالية لدعم القطاع الصحي بشكل عاجل، لمواجهة الوباء والحد من انتشاره إلى الولايات الأخرى، مؤكدًا أن هذا يتطلب دعمًا دوليًا وإقليميًا لوجستيًا وماليًا لمساندة جهود السيطرة على المرض، في ظل ظروف إنسانية صعبة يعاني فيها السكان من الجوع وسوء التغذية ونقص الخدمات الصحية.
وأكد أن العقوبات الدولية المفروضة على السودان لأسباب عسكرية يجب ألا تعوق تقديم الدعم الإنساني والطبي للشعب السوداني، مشيرًا إلى أنه من منطلق حقوق الإنسان والواقع الإقليمي والدولي، يتوجب على المجتمع الدولي أن يسرع في تقديم المساعدة لحماية السودان والدول المجاورة من خطر انتقال الوباء، لأن القضاء على الأوبئة في أي دولة هو حماية لشعوب العالم كافة.
وأشار فهمي إلى أن هذا الأمر يفرض استثناء السودان من العقوبات الحالية في ما يتعلق بالمساعدات الصحية والإنسانية، بغض النظر عن الخلافات السياسية، لأن حماية الأرواح والحد من انتشار الأوبئة مسؤولية إنسانية وأمنية دولية لا تقبل التأجيل أو المماطلة.
الكوليرا تفاقم مآسي الحرب
أطلق الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السوداني، سيبويه يوسف، تحذيرًا بالغ الجدية بشأن تفاقم الوضع الصحي في البلاد، لا سيما بعد انتشار وباء الكوليرا في سبع ولايات سودانية حتى الآن، وفق ما تداوله ناشطون ومصادر طبية غير رسمية، هذه الكارثة الصحية لم تعد مجرد حالة طارئة بل تحولت إلى مأساة إنسانية حقيقية تُثقل كاهل المواطنين وتنهك النظام الصحي المنهار بفعل النزاع المسلح.
وقال يوسف، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن المعلومات المتوفرة تشير إلى تزايد مهول في أعداد المصابين، في وقت تفتقر فيه المؤسسات الصحية إلى القدرة على الاستيعاب أو المواجهة.
وقال إن مستشفى “النوم” الحكومي، وهو المستشفى العام الوحيد العامل في المنطقة المتضررة، يشهد تكدسًا غير مسبوق للمرضى، حيث فاضت أروقته بالمصابين، إلى درجة دفعت بالأمهات إلى الجلوس في الشوارع وهن يحملن المحاليل الوريدية لأطفالهن دون أدنى شروط الرعاية أو السلامة الصحية.
وأضاف أن المشهد يجسد واحدة من أكثر الكوارث الصحية إيلامًا في تاريخ السودان المعاصر.
ودعا يوسف الحكومة السودانية إلى التحلي بقدر أكبر من الشفافية والقوة في طرح الأزمة على المجتمع الدولي، ومناشدة المؤسسات الإقليمية والدولية للتدخل الفوري، ليس فقط من باب التعاطف، بل من منطلق الالتزام الإنساني والأخلاقي تجاه شعب تنهشه الأمراض والمجاعات والدمار. وشدد على ضرورة اتخاذ طرفي الحرب قرارًا شجاعًا بوقف الأعمال القتالية فورًا، من أجل التفرغ لمجابهة هذه الكارثة التي لا تفرق بين جندي ومدني، ولا بين منطقة خاضعة لهذا الطرف أو ذاك.
وأوضح أن انتشار الكوليرا تفاقم بفعل انهيار البنية التحتية للخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء والمياه النظيفة، إذ أصبحت البيئة العامة مرتعًا خصبًا للمرض مع تفشي التلوث وانعدام وسائل التعقيم. ولفت إلى أن جهود الحكومة، مهما بلغت، لن تكون مجدية دون دعم إقليمي ودولي واسع النطاق، فالوضع يفوق قدرات أي دولة بمفردها، خاصة إذا كانت ترزح تحت نار الحرب والفقر والعقوبات.
وأشار إلى خطورة ما وصفه بـ"الاستثمار السياسي" في الدعوات الموجهة إلى المواطنين للعودة إلى ديارهم، دون ضمان الحد الأدنى من تأمين البنية الصحية والخدمية، مؤكداً أن هذه الدعوات تُظهر الخرطوم كمدينة آمنة في الوقت الذي لا تزال فيه الأوضاع فيها غير قابلة للحياة. وقال إننا نعيش مرحلة شديدة الحساسية، تتطلب معالجة الأزمة على أسس إنسانية لا على خلفيات سياسية أو دعائية.
وحذّر من أن البيئة الحالية مهيأة لانتشار الوباء بشكل أوسع، لا سيما في ظل شح الأدوية وغياب المواد المعقّمة، وعدم توفر مصادر المياه النظيفة. ودعا المجتمع الدولي إلى النهوض بمسؤولياته تجاه السودان، وفقًا لما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، من خلال تقديم مساعدات طبية وتقنية عاجلة دون ربطها بمواقف سياسية أو وصف السودان بالدولة "الهشة" أو "الفاشلة"، وهي تسميات لا تخدم الواقع بقدر ما تعيق العمل الإنساني المطلوب.
وختم يوسف تصريحه بالتأكيد على أن الطرفين المتصارعين يتحملان مسؤولية مباشرة عمّا يعيشه المواطن السوداني من معاناة، وأن عليهما الارتقاء إلى مستوى اللحظة الإنسانية الحرجة التي تمر بها البلاد، والتوافق فورًا على وقف الحرب، ولو مؤقتًا، ليتسنى للكوادر الصحية والمجتمع الدولي معالجة الأزمة الصحية الخطيرة التي تهدد حياة الملايين، وتحول شوارع السودان إلى مشاهد تنضح بالألم والوجع، في صمت لا يليق بكرامة الإنسان.